في الذكرى 27 لاغتيال الشهيد داني شمعون وعائلته/ يومان قبل الاغتيال

أكتوبر 23, 2017
أنطوان الخوري حرب

اليوم الذي سبق اغتيال الشهيد الكبير داني شمعون وعائلته. كان اليوم الأول الذي عدت فيه إلى منزلنا في عوكر عقب معركة 13 تشرين الأول 1990. كان اهلي في استقبالي والفرح ظاهر على وجه امي لكوني عدت سليما معافى من تلك المعركة المجزرة.
كان والدي حينها العضو في الجبهة اللبنانية التي كان شمعون يترأسها، منكبا على الاتصالات الهاتفية، وفهمت من أحاديثه أنه يفاوض أحد ما لتأمين سلامة رئيسه.
سألته عن الأمر فأخبرني أنه زار شمعون قبل يومين، وكان هذا لقائه الأول به بعد الاجتياح. فوجده في حال غضب جراء ما جرى. كما أخبره أنه كان آخر من التقى الجنرال مساء 12تشرين. بعد انصراف الجميع وخلو القصر الجمهوري من الزوار وحتى المعتصمين. فسأله عن الاحتمالات المتوقعة. فاجابه الجنرال بان الاجتياح السوري البري بغطاء جوي مستبعد جدا. ولا سيما بعد إعلان وزارتي خارجية الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل معارضتهما له. فاجابه شمعون بان اتصالاته تشير إلى عكس ذلك. وأن هناك من أخبره بأن الموقف الإسرائيلي ملتبس لأنه حصل على معلومة تفيد عن حصول اجتماع بين ضابطين كبيرين سوري وإسرائيلي قبل أيام في قبرص لمناقشة العملية العسكرية. كما انه علم بلقاء آخر حصل في إحدى البلدات الشوفية، بين رئيس الاستخبارات السورية في لبنان العميد غازي كنعان ومنسق الانشطة الاسرائيلية اوري لوبراني للغاية نفسها. تفاجأ شمعون بجهل الجنرال واستخباراته لهذين الاجتماعين لكن عون بادره بالقول أنه عمل حسابا لكل الاحتمالات، فهو يستبعد كليا سماح اسرائيل لسوريا باستعمال الطيران الحربي لان تفاهم "الخطوط الحمر لا يزال قائما بين الدولتين بإشراف اميريكي، والذي يبيح لإسرائيل القيام بطلعات جوية في الأجواء اللبنانية ويحرم ذلك على الطيران السوري. وأن هذا التفاهم هو السبب وراء بياني الحكومتان الأمريكية والإسرائيلية الرافضتين للاجتياح. وأن محاولة اغتياله بالأمس تعتبر تفسيرا واضحا لتعذر الاجتياح العسكري واستبداله بالحذف الشخصي.
ثم تناول الجنرال ورقة من على مكتبه مدون عليها قائمة تفرز المواقف الدولية من الاجتياح، وراح يعدد له المواقف المعارضة ومنها موقف الاتحاد السوفياتي. لكن ما استوقف الجنرال ليس هذا الموقف على أهمية الدولة التي تتبناه حينذاك. بل موقف الفاتيكان الذي كان يخالف موقفي البطريرك الماروني نصرلله صفير والسفير البابوي بابلو بوانتي المؤيدان للاجتياح. ثم علق بالقول: نحن آخر معقل سياسي مسيحي في الشرق، والفاتيكان يدرك أهميته ولن يقبل بالتفريط به. وأن ما يحكى عن صفقة سورية أميريكية تقضي بتسليم لبنان لسوريا مقابل تأييد سوريا السياسي والعسكري للحملة العسكرية الأمريكية على العراق، هي مجرد مناورة أميريكية على حافظ الاسد، والهدف منها تأجيل البت بالملف اللبناني الى ما بعد انتهاء معركة الكويت. حتى ان نتائج الحرب العراقية الأمريكية اذا ما وقعت، فلن تكون بالضرورة لمصلحة الولايات المتحدة.
 لم يقنع هذا الكلام شمعون كثيرا فقال لعون، صحيح انني لا املك من المعطيات اكثر مما لدي، لكن شعوري ينبئني بأن الاجتياح بات قريبا جدا، فما العمل اذا حصل، فاجابه الجنرال، اولا سنحتفظ بالحق بالمقاومة وسننقل ميدانها الى كل حي وشارع وبلدة عبر تنظيم المقاومة الشعبية. لكن احتمال الاستسلام امر خارج النقاش. وقد أعطيت أوامري لاركان الجيش بالتصدي للاجتياح .
كانت تلك آخر مرة يرى فيها شمعون عون، كما كانت تلك آخر محادثة بينهما. عاد بعدها الى منزل شقيقه دوري في بعبدا الذي كان يقيم فيه مؤقتا بعد تهجيره من منزله في الاشرفية من قبل القوات اللبنانية.
التقى في المنزل عبدو سمعان مرافقه الشخصي والمسؤول عن امنه وحمايته، وأثناء حديثه معه على الشرفة حول وجوب الانتباه من الخروقات الأمنية الاستخباراتية القواتية للمنطقة، في ظل الفوضى الأمنية التي سببها انهيار المؤسسات الأمنية والعسكرية جراء الاجتياح العسكري واستغلال هذه الفوضى من قبل الأجهزة الأمنية الميليشياوية للقيام باختراقات وتسللات إلى المنطقة. ثم نظر الى ناحية بيروت وقال لسمعان، "بدن يدفعوني تمن موقفي. انا باقي هون وما رح غير موقفي. تا شوف شو رح يعملو هالولاد ال..."
في ختام حديثنا، أخبرني والدي بأنه على موعد مع النائب الراحل قبلان عيسى الخوري، الذي كان قد تداول معه بالأمر. عارضا وساطة مع السوريين للحصول على ضمانة لامن داني شمعون الشخصي. لكونه كان صاحب موقف سياسي ولم يقم باعمال عسكرية او امنية اسوة بكل السياسيين المقيمين في منطقة الجيش. فطلبت منه مرافقته.
مررنا في طريقنا على منزل شمعون، وكان الجو المقلق ظاهرا على الحارسين الوحيدين الذين شاهدتهما يومها عند مدخل البناء. وقد علمنا لاحقا بان قيادة الجيش قد سحبت عناصر الحماية المخصصة للرئيس كميل شمعون. وقد بررت ذلك بأن هذا الأمر شمل معظم مرافقي الشخصيات السياسية.
صعد والدي إلى منزل شمعون في الطابق الاخير، فيما انتظرته في السيارة ليعود بعد حوالي نصف ساعة، ولننطلق مباشرة إلى منزل الخوري في الأرز عبر طريق البقاع.
في الطريق إلى زحلة كنا نشاهد ارتال الآليات السورية المنتشرة على الطرقات المؤدية إلى منطقة بعبدا، مقيمة حواجز التفتيش تحت صور رئيسهم وعلمهم. فشعرت لأول مرة بجو احتلالي حقيقي لم اعرفه من قبل، رغم تجوالي في مناطق سيطرة السوريين خارج "الشرقية" سابقا.
بوصولنا إلى زحلة عصرا، توجه الوالد الى قاعدة رياق الجوية ليلتقي أحد ضباط الأمن فيها. والذي ارسل معنا دورية رافقتنا إلى فتدق القادري حيث أجرى والدي اتصالات بشمعون وعيسى الخوري، وتم الاتفاق على أن يطلب والدي هاتفيا شمعون من منزل عيسى الخوري ليتكلم معه في تمام الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي.
بتنا ليلتنا في الفندق وانطلقنا صباحا بمرافقة دورية الأمن إلى الأرز. وبوصولنا إلى منزل عيسى الخوري، لاقانا شقيقه بهجت عند المدخل مقربا الراديو من اذنه والصدمة بادية على وجهه. في نفس اللحظة وقبل ان نستوعب شيئا مما يحصل، وفيما ندخل الصالون وراءه دخل شقيقه قبلان مستفسرا عما يجري، فجلسنا ورفع بهجت صوت الراديو وسمعنا كلنا الخبر الفاجعة. فعلق قبلان عيسى الخوري بعبارة واحدة :"سبقونا ولاد..."
نظرت الى والدي فرأيته قد غرق في كرسيه متلاشيا وكأنه قد اسقط من يده، وبدأ محبطا وقلقا. تلك الجريمة بفظاعتها لم تكن متوقعة بهذه السرعة والسهولة. لكن في نهاية الأمر بقي ذلك النمر في مواجهة قدره خلال الفترة الخطيرة التي تعقب كل هزيمة عسكرية، حيث تسهل الانتهاكات وتصعب الملاحقات، بينما كان بإمكانه السفر إلى الخارج غداة 13 تشرين اسوة بما فعله غيره من الذين أقل خطورة وأهمية منه بكثير.
لقد كان واضحا من أسلوب الجريمة انه من مدرسة معروفة. فقتل الاطفال والنساء حدث في مجزرة اهدن، كما حدثت محاولة مماثلة لكن فاشلة في مجزرة الصفرا. وينطبق هذا الوصف ايضا على استشهاد مايا بشير الجميل.
لقد اختص الموارنة في هذه السلوكية الإجرامية عند تصفية حساباتهم الداخلية خلال السباق إلى صدارة الزعامة. ولا يمكن لهذه الأحداث الا ان تحفر عميقا في الوجدان المسيحي، فلا نعود نسمع ابن أحدهم اليوم يدافع عن مجازر ابيه ويعلن استعداده لتكرارها.
لقد سلم الفرنسيون الموارنة عام 1920، نظام الامتيازات المسيحية الشبه رئاسي. فبدل أن يضعوا صلاحياتهم وقوتهم ومميزاتهم الاجتماعية والثقافية والحضارية في خدمة مشروع الدولة العصرية، قاموا بوضع الدولة في خدمة مصالحهم الشخصية الرخيصة. فباستثناء الرئيس فؤاد شهاب، لم يتوانى اي رئيس للجمهورية عن محاولة تجديد او تمديد ولايته الرئاسية، متلاعبا بالدستور ومستخفا بالمؤسسات الدستورية، ناهيك عن الفساد واستغلال المال العام لتكريس الثروات وتوريث مقدرات الدولة للاقارب. مما جعل المارونية السياسية مرضا سياسيا ولعنة على الوطن بدل ان تكون منارة لميزة لبنان الحضارية في محيطه والعالم.
كان الهدف من اغتيال داني شمعون حذفه من ساحة المنافسة السياسية بعدما هزم الجنرال وتفرق الحلفاء وبقي وحده في المنطقة متحولا بصورة فورية وتلقائية في 13 تشرين إلى غطاء ومظلة وحاضنة لكل تلك الحالة الشعبية التي كانت مشتعلة وطنية حتى آخر لحظة في منطقة الجنرال.
عندما يدخل الإجرام في خدمة المصالح السياسية الشخصية، يستحيل ان تكون حسابات صاحبه سليمة. وقد شهدت السنوات اللاحقة لهذه الجريمة صحة هذه القاعدة

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة